الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
واستهلت
يوم الثلاثاء وقد ورد الخبر بقدوم عرب لبيد إلى البحيرة فندب السلطان تغري بردي البكلمشي المؤذي أحد مقدمي الألوف فخرج من القاهرة في يوم الجمعة رابع المحرم وصحبته عدة من المماليك السلطانية. وفي هذا اليوم خلع السلطان على خاله جكم باستقراره خازندارًا كبيرًا عوضًا عن علي باي الأشرفي واستمر على إقطاع جنديته من غير إمرة. ثم في يوم الاثنين خامس عشر المحرم نزل الطلب إلى شيخ الشيوخ سعد الدين سعد الديري وخلع عليه باستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني بعد تمنع كبير وشروط منها: أنه لا يقبل رسالة أحد منهم - أعني أكابر الدولة - وأنه لا يتوجه عليه في شيء وأشياء غير ذلك ونزل إلى داره بالجامع المؤيدي وقد سر الناس بولايته غاية السرور. وفيه أنعم السلطان على سبعة من الخاصكية لكل منهم بإمرة عشرة وهم: قانم من صفر خجا المؤيدي المعروف بالتاجر أحد الدوادارية وجكم النوروزي المجنون وقانبك الأبو بكري الأشرفي الساقي وجانبك الساقي الأشرفي المعروف بقلق سيز وجانم الأشرفي أحد الدوادارية المعروف برأس نوبة سيدي وجرباش الأشرفي رأس نوبة الجمدارية المعروف بمشد سيدي والسابع ما أدري: أهو جكم خال الملك العزيز أو هو آقبردي المظفري الظاهري برقوق رأس نوبة الجمدارية. وفيه أيضًا خلع السلطان على مراد قاصد الأمير حمزة بك بن قرايلك ورسم بسفره وصحبته شمس الدين القلمطاوي أحد موقعي حلب وجهز السلطان صحبتهما مبارك شاه البريدي وعلى يده جواب كتاب الأمير حمزة بشكره والثناء عليه وتشريف له بنيابة السلطنة بممالكه وفرس بقماش ذهب وهدية هائلة ما بين قماش سكندري وسلاح وغيره ونسخة يمين. وأجيب الأمراء المجردون أيضًا عن كتبهم ورسم لهم أن يسرعوا في الحضور إلى الديار المصرية. وفي هذه الأيام كثر الكلام بين الأمراء والخاصكية بسبب التوجه إلى البلاد الشامية وحمل تقاليد النواب بالاستمرار إلى أن كان يوم السبت تاسع عشر المحرم خلع السلطان على الأمير أزبك السيفي قاني باي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة معروف بجحا - وعين لتقليد الأمير إينال الجكمي نائب الشأم باستمراره على عادته وكان تقدم أن السلطان خلع على الأمير إينال الفقيه بتوجهه إلى نائب حلب وخلع السلطان على إينال الخاصكي بتوجهه إلى الأمير جلبان نائب طرابلس وعلى دولات باي الخاصكي بالتوجه إلى قاني باي الحمزاوي نائب حماة وعلى يشبك الخاصكي بالتوجه إلى إينال العلائي الناصري نائب صفد كل والنواب في التجريدة صحبة الأمراء المصريين. وفي هذا اليوم حل بالزيني عبد الباسط أمور غير مرضية من بعض المماليك الأشرفية في وقت الخدمة السلطانية هذا بعدما نزل به قبل تاريخه في هذه الأيام أنواع من المكاره ما بين تهديد ولكم وإساءة احتاج من أجلها إلى بذل الأموال ولمن يحميه منهم ليخلص من شرهم فلم يتم له ذلك. ثم في ثالث عشرين المحرم قدم ركب الحاج إلى القاهرة وأمير حاج حمل آقبغا من مامش الناصري المعروف بالتركماني أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بعد أن حل بالحاج من البلاء ما لا مزيد عليه من أخذهم وأخذ أموالهم ونهبهم وقد فعلت الأعراب بهم ما فعله التمرية في أهل البلاد الشامية ومعظم المصيبة كانت بالركب الغزاوي فلم يلتفت أحد من أهل الدولة لذلك لشغل كل واحد بما يرومه من الوظائف والإقطاعات وغيرها ودع الدنيا تخرب ويحصل له ثم في يوم الثلاثاء تاسع عشرين المحرم قدم إلى القاهرة مماليك نواب البلاد الشامية وعلى أيديهم مطالعات تتضمن أنهم ملكوا مدينة أرزنكان وأنه خطب بها باسم السلطان الملك الأشرف برسباي ولم يعلموا إذ ذاك بموته. ثم في يوم الخميس أول صفر عملت الخدمة السلطانية ونزل كل واحد إلى داره. فلما كان عبد الباسط بالقرب من باب الوزير تجمع عليه عدة من المماليك الأشرفية وتحاوطوه وأوسعوه سبًا ووعيدًا وهموا به وأراد بعضهم ضربه حتى منعه عنه من كان معه من الأمراء وتخلص منهم وولى هاربًا يريد القلعة حتى دخلها وهم في أثره فامتنع بها. وأقام بالقلعة يومه كله وبات بها وهو يطلب الإعفاء من وظيفتي نظر الجيش والأستادارية. وأصبح السلطان من الغد جلس بالحوش السلطاني على الدكة وطلع الأمير الكبير جقمق نظام الملك واستدعى عبد الباسط إلى حضرة السلطان والسلطان على عادته من السكات لا يتكلم في شيء من أمور المملكة وليس ذلك لصغر سنه وإنما هو لأمر يريده الله تعالى. فلما حضر عبد الباسط كلمه الأمير الكبير في استمراره على وظيفته فشكا له ما يحط به فلم يلتفت إلى شكواه وخلع عليه باستمراره وعلى ملوك جانبك باستمراره على وظيفته الأستادارية ونزلا إلى دورهما ومعهما جماعة كبيرة. ثم في يوم الأحد رابع صفر ورد في السلطان كتاب الأمير إينال الجكمي نائب الشام بوصوله بالعساكر المصرية والشامية من البلاد الشمالية إلى حلب وأن الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش نائب حلب تأخر عنهم لما بلغه موت الملك الأشرف وأنه أراد أن يكبس على الأمراء المصريين فبلغهم ذلك فاحترزوا على نفوسهم منه إلى أن دخلوا إلى حلب. ثم في يوم السبت عاشر صفر رسم السلطان بأن تقتصر الخدمة السلطانية على أربعة أيام في الجمعة وأن تكون الخدمة بالقصر فقط عندما يحضر الأتابك جقمق وأن تبطل خدمة الحوش لغيبة الأتابك منه. وهذا ابتداء أمر الأتابك جقمق وظهوره في الدولة لكثرة من انضم عليه من الطوائف من الأمراء وأعيان المماليك السلطانية. ثم قدم كتاب نائب حلب يتضمن رحيل العساكر من حلب إلى دمشق في سادس عشرين المحرم وأنه قدم إلى حلب بعدهم في ثامن عشرينه وأنه كان تخوف من الأمراء المصريين أن يقبضوا عليه فلهذا تخلف عنهم وأنه في طاعة السلطان وتحت أوامره فلم يجب بشيء لشغل أهل الدولة بما هم فيه من تنافر قلوب بعضهم من بعض. وقد وقع أيضًا بين المماليك الأشرفية وبين خجداشهم وأعظمهم الأمير إينال الأبو بكري الدوادار الثاني. فلما كان يوم الاثنين ثاني عشره تجمع المماليك الأشرفية بالقلعة يريدون قتل الأمير إينال الأبو بكري المقدم ذكره ففر منهم بحماية بعضهم له ونزل إلى داره. فوقفوا خارج القصر وسألوا الأمير جقمق بأن يكون هو المستبد في الأمر والنهي والتحكم في الدولة وأن ترفع يد إينال وغيره من الحكم في المملكة فأجاب إلى ذلك ووعدهم بكل خير ونزل. وقد اتسع للأتابك جقمق - بهذا الكلام - الميدان ووجد لدخوله في المملكة بابًا كبيرًا فإنه كان عظم جمعه قبل ذلك لكنه كان تخشى كثرة المماليك الأشرفية فلما وقع الآن بينهم المباينة خف عنه أمرهم قليلًا وقوي أمره كل ذلك ولم يظهر منه الميل للوثوب على الملك العزيز بالكلية غير أنه يوافق القوم في الإنكار على فعل المماليك الأشرفية وكثرة شرورهم لا غير. ولما كان صباح النهار المذكور وهو يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر وقف جماعة من الأشرفية تحت القلعة بغير سلاح ووقع بينهم وبين خجداشيتهم الذين هم من طبقة الأشرفية من إنيات إينال وإخوته وقعة هائلة بالدبابيس ثم انفضوا وعادوا من الغد في يوم الأربعاء إلى مكانهم بسوق الخيل. فلما وقع ذلك تحقق المماليك القرانيص وقوع الخلف بين المماليك الأشرفية فقاموا عند ذلك وتجمعوا عند الأمير الكبير ومعهم الأمير إينال المذكور بإنياته وخجداشيته من المماليك الأشرفية وهم جمع كبير أيضًا وتكلموا مع الأمير الكبير بالقيام في نصرة إينال المذكور - وليس ذلك مرادهم وإنما قصدهم غير ذلك لكنهم لم يجدوا مندوحة لغرضهم أحسن من هذه الحركة - وأظهروا الميل الكلي إلى نصرة إينال وصاروا له أصدقاء وهم في الحقيقة أعدى العدى. فمال الأتابك جقمق إلى نصرة إينال لكوامن كانت عنده من القوم وقد صار بهذه القضية في عسكر هائل وجمع كبير من المماليك الظاهرية برقوق وهم خجداشيته والمماليك الناصرية فرج والمماليك المؤيدية شيخ والسيفية وعالم كبير من المماليك الأشرفية أصحاب إينال. وبقي العسكر قسمين: قسم مع الأمير الكبير جقمق وهم من ذكرنا ومعظم الأمراء من مقدمي الألوف وغالب أمراء الطبلخانات والعشرات ما خلا جماعة من أمراء الأشرفية وقسم آخر بالقلعة عند السلطان الملك العزيز وهم أكثر المماليك الأشرفية وعندهم الخليفة والخزائن والزردخانة إلا أنهم جهال بمكائد الأخصام ووقائع الحروب لم تمر بهم التجارب ولا مارسوا الوقائع وأعظم من هذا أنهم لم يقربوا أحدًا من الأكابر وأرباب المعرفة فضلوا وأضلوا وذهبوا وأذهبوا وأضعفوا بسوء تدبيرهم قواهم وتركوا الملك باختلاف آرائهم لمن عداهم على ما سيأتي بيان ذلك كله في محله. هذا وكل من الطائفتين يدعي طاعة الملك العزيز غير أن الخصم هو إينال وقد التجأ إلى الأمير الكبير جقمق نظام الملك فقبله الأمير الكبير بمن معه وقام في الظاهر بنصرة إينال أتم قيام وفي الحقيقة إنما هو قام بنصرة نفسه وقد ظهر ذلك لكل أحد حتى لإينال غير أنه صار يستبعد وما من حبه أحنو عليه ولكن بغض قوم آخرينا ولما وقع ذلك استفحل أمر الأتابك وتكاثف جمعه ومعظم من قام في هذه القضية معه المماليك المؤيدية وقد أظهروا ما كان في ضمائرهم من الأحقاد القديمة في الدولة الأشرفية وأخذوا في الكلام مع الأتابك وتقوية جانبه على الوثوب بالمماليك الأشرفية الذين بقلعة الجبل وهو يتثاقل عن ذلك حتى يتحقق من أمرهم ما يثق به وصار يعتذر لهم بأعذار كثيرة: منها قلة المال والسلاح وأن الذين بقلعة الجبل أقوياء بالقلعة والمال والسلطان والسلاح. فقالوا: هو ما قلت غير أن هؤلاء جهلة لا يدرون الوقائع ولا مقاومة الحروب ولا أمر العواقب ونحن أعرف بذلك منهم وجمعنا يقاتل معك من غير أن تبذل لهم الأموال. ولا زالوا به حتى أذعن لهم بعد أن بلغه عن بعضهم أنه يقول عنه: " الأمير الكبير دقن المرأة " وأشياء غير ذلك كونه لا يوافقهم على الركوب وأنهم يقولون: " إن كان الأمير الكبير ما يوافقنا أقمنا لنا أستاذًا غيره ". ولما وافقهم الأمير الكبير على الركوب أشاروا عليه بعدم الطلوع إلى الخدمة السلطانية من الغد في موكب يوم الخميس خامس عشر صفر فقبل منهم ذلك. وأصبح يوم الخميس المذكور وقد كثر جمعه وتحول من داره التي تجاه الكبش على بركة الفيل إلى بيت نوروز الحافظي تجاه مصلاة المؤمني وقد اجتمع عليه خلائق من المماليك من سائر الطوائف وعليهم السلاح الكامل وآلة الحرب. وقبل أن يركب الأمير الكبير جقمق عند وضع رجله في الركاب قال: " هذا دقن المرأة بيركب حتى نبصر إيش تفعل الرجال الفحوله " فصاحوا بأجمعهم: لا نقاتل بين يديك إلى أن نفنى أو ينصرك الله على من يعاديك ". ثم سار بجموعه حتى وافى البيت المذكور فوقف على باب الدار وقد اجتمع عليه جمع من المماليك والزعر والعامة فوعدهم الأمير الكبير بالنفقة والإحسان إليهم. كل ذلك ولم يقع إلى الآن قتال. فلما تحقق المماليك الأشرفية ركوب الأمير الكبير ورأوهم من أعلى قلعة الجبل أخرجوا السلطان من الدور إلى القصر المطل على الرميلة واجتمعوا عليه بالقصر وغيره وقد لبسوا السلاح أيضًا. وكان كبراء الأشرفية الذين بالقلعة عند الملك العزيز من أمراء الأشرفية وغيرهم جماعة: منهم الأمير يخشباي الأشرفي الأمير آخور الثاني وعلي باي شاد الشراب خاناه وتنبك النوروزي المعروف بالجقمقي نائب قلعة الجبل وخشكلدي من سيدي بك الناصري رأس نوبة وكزل السودوني المعلم رأس نوبة وجكم الخازندار خال الملك العزيز وجماعة أخر ممن تأخر في أمسه من المماليك الأشرفية ومعظم الخاصكية الأشرفية أصحاب الوظائف وغيرهم ما خلا من نزل منهم مع الأمير إينال الأبو بكري. واستعدوا لقتال الأمير الكبير ومن معه وباتوا تلك الليلة بعد أن تناوشوا في بعض الأحيان بالرمي بالنشاب ولم يقع قتال في مقابلة. وأصبحوا يوم الجمعة سادس عشر صفر على ما باتوا عليه. واستمر كل طائفة من الفريقين على تعبيتهم إلى بعد صلاة العصر فزحف أصحاب الأمير الكبير إلى باب القرافة وهدموا جانبًا من سور ميدان القلعة وغيره ودخلوا إلى الميدان فنزل إليهم طائفة من السلطانية ركبانًا ومشاة وقاتلوهم مواجهة حتى هزموهم وأخرجوهم من الميدان. وتراموا بالنشاب ساعة فحال بينهم الليل وبات كل طائفة منهم على حذر. وتوجهت الأشرفية الذين بالقلعة وفتحوا باب الزردخانة السلطانية وأخذوا من السلاح الذي بها ما أرادوا ونصبوا مكاحل النفط على سور القلعة وأخذوا في أهبة القتال. حتى أصبحوا يوم السبت سابع عشر صفر وقد استفحل أمر السلطانية من عصر أمسه فتجمعت الجقمقية وابتدؤوا بقتال السلطانية فوقع بين الطائفتين قتال بالنشاب والنفوط فهلك من العامة خلائق ممن كان من حزب الأمير جقمق كل ذلك وأمر السلطانية يقوى إلى بعيد الظهر فلاح عليهم الخذلان من غير أمر يوجب ذلك ومشت القضاة بين السلطان والأمير الكبير جقمق غير مرة في الصلح والكف عن القتال وحقن دماء المسلمين وإخماد الفتنة. هذا وقد ترجح جهة الأمير الكبير جقمق وطمعت عساكره في السلطانية فقال الأمير الكبير: " أصطلح بشرط أن يرسل السلطان إلي بأربعة نفر وهم: جكم خال الملك العزيز الخازندار وتنم الساقي وأزبك البواب ويشبك الفقيه الأشرفي الدوادار " فأذعن السلطان ومن عنده لذلك بعد كلام كثير فنزل الأربعة من القلعة بعد صلاة العصر من يوم السبت المذكور مع من كان تردد في الصلح وساروا حتى دخلوا بيت الأمير الكبير فحال وقع بصره عليهم قبض عليهم واحتفظوا بهم. وركب الأمير الكبير فرسه وساروا معه أعيان أصحابه إلى أن صار في وسط الرميلة تجاه باب السلسلة فنزل عن فرسه بعد أن فرش له ثوب سرج جوخ وقبل الأرض بين يدي السلطان الملك العزيز لكونه أرسل إليه أخصامه ثم ركب في أصحابه وعاد إلى بيته بالكبش ومعه المقبوض عليهم إلى أن نزل بداره في موكب جليل إلى الغاية. وأخذ أمر الأمير الكبير جقمق من هذا اليوم في زيادة وقوة وأمر الملك العزيز ومماليك أبيه الأشرفية في نقص ووهن وإدبار. وأصبح بكرة يوم الأحد ثامن عشر صفر أرسل الأمير الكبير إلى السلطان في طلب جماعة أخر من المماليك الأشرفية فنزل إليه الأمير يخشباي الأمير آخور الثاني والأمير علي باي شاد الشراب خاناه وهما من عظماء القوم والمشار إليهما من القلعة الأشرفية وقبلا يد الأمير الكبير جقمق فأكرمهما الأمير الكبير ووعدهما كل خير. ثم أمر في الحال بطلب الأمير الطواشي خشقدم اليشبكي مقدم المماليك السلطانية فحضر إليه وقبل يده فأمره الأمير الكبير أن يتقدم بنزول جميع من في الأطباق من المماليك الأشرفية وهدده إن لم يفعل ذلك فاستبعد الناس وقوع ذلك لكثرة المماليك الأشرفية وشدة بأسهم. فحالما طلع خشقدم وأمرهم بالنزول أجابه الجميع بالسمع والطاعة. ونزل صبيان طبقة بعد طبقة إلى بيت الأمير الكبير وقد حضر عنده قضاة القضاة الأربعة وأهل الدولة وأعيانها وحلفوا الأمير الكبير على طاعة السلطان ثم حلفوا المماليك الأشرفية على طاعة الأمير الكبير وحكم قاضي القضاة سعد الدين بن الديري الحنفي بسفك دم من خالف هذا اليمين. . وعند انقضاء الحلف أمر الأمير الكبير بنزول جميع المماليك الأشرفية من أطباقهم بالقلعة إلى إسطبلاتهم ما خلا المماليك الصغار فاعتذروا عن قلة مساكنهم بالقاهرة فلم يقبل الأمير الكبير أعذارهم وشدد عليهم والناس تظن غير ذلك فخرجوا. وفي الحال أخذوا في تحويل متاعهم ونزلوا من الأطباق بعد أن ظن كل أحد منهم أنه لا بد له من إثارة فتنة وشر كبير تسفك فيه دماء كثيرة قبل نزولهم فلم يقع شيء من ذلك ونزلوا من غير قتال ولا إكراه وخلت الطباق منهم في أسرع وقت خذلانًا من الله تعالى وتركوا السلطان والخزائن والسلاح والقلعة ونزلوا من غير أمر يوجب النزول وهم نحو الألف وخمسمائة نفر هذا خلاف من كان انضم عليهم من الناصرية والمؤيدية والسيفية. ولله در القائل: السريع ما يفعل الأعداء في جاهل ما يفعل الجاهل في نفسه وتعجب الناس من نزولهم حتى الأمير الكبير جقمق. وصار يتحدث بذلك أوقاتًا في سلطنته فإنه كان أولًا تخوف منهم أن يقبضوا عليه عند طلوعه إلى القلعة غير مرة ولهج الناس بذلك كثيرًا وبلغ الأتابك أنهم يريدون أن يقبضوا عليه وعلى عبد الباسط وعلى الصاحب جمال الدين ناظر الخاص فقال: وإيش يمنعهم من ذلك. وانقطع عن الخدمة السلطانية أيامًا حتى كلمه أصحابه في الطلوع وشجعوه وقالوا له: نحن نطلع في خدمتك ولا يصيبك مكروه حتى تذهب أرواحنا. كل ذلك قبل أن يقع الشر بين الأمير إينال وخجداشيته فهذا كله ذكرناه لتعرف به شدة بأس المماليك الأشرفية وكثرة عددهم. فلما تكامل نزول المماليك الأشرفية من الأطباق إلى حال سبيلهم كان هذا أول مبدأ زوال ملك السلطان الملك العزيز يوسف. ومن يومئذ أخذ الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي في الندم بما وقع منه من الانفراد عن خجداشيته والانضمام على الأتابك جقمق حتى إنه صار يبكي في خلواته ويقول: " ليتني كنت حبست بثغر الإسكندرية ودام تحكم ابن أستاذي وخجداشيتي. وما عسى خجداشيتي كانوا يفعلون بي ". وندم حيث لا ينفع الندم. وربما بلغ الأمير الكبير عنه ذلك فأخذ يحلف له أنه لا يريد الوثوب على السلطنة ولا خلع الملك العزيز وأنه لا يريد إلا يكون نظام ملكه ومدبر ممالكه وأشياء غير ذلك. قلت: وأنا أظن أن الأمير إينال ما طال حبسه إلا بهذا المقتضى والله أعلم. ثم في يوم الأحد هذا قدم الأمير تغري بردي البكلمشي المؤذي أحد مقدمي الألوف من البحيرة بمن كان صحبته من المماليك السلطانية - وكان الأتابك أرسل يستحثه في القدوم عليه ليكون من حزبه على قتال الأشرفية فتقاعد عنه إلى أن انتهى أمر الوقعة وحضر - فأخذ الأتابك جقمق يوبخه لعدم حضوره وهو يعتذر بعدم وصول الخبر إليه ويقبل يده. ثم ورد الخبر على السلطان بأن العسكر المجرد من الأمراء وصل إلى دمشق في خامس صفر. ثم في يوم الثلاثاء العشرين من صفر شفع الملك العزيز في خاله جكم ورفقته فأفرج عنهم الأتابك جقمق وخلع على كل منهم كاملية مخمل بفرو سمور وبمقلب سمور. ثم في يوم الخميس ثاني عشرين صفر طلع الأمير الكبير جقمق إلى الخدمة السلطانية ومعه سائر الأمراء وأرباب الدولة ومنع المماليك الأشرفية من الدخول إلى قصر في وقت الخدمة إلا من له وحضر الأمير الكبير الخدمة وخلع عليه السلطان تشريفًا عظيمًا باستمراره على حاله. ونزل من وقته إلى باب السلسلة وسكن الحراقة من الإسطبل السلطاني بعد نقل إليها قماشه ورخته في أمسه وبعد أن أمر الأمير يخشباي الأمير أخور الثاني بالنزول من الإسطبل إلى بيته قبل تاريخه. فنزل يخشباي إلى داره وكانت دار قطلوبغا الكركي التي تجاه دار منجك اليوسفي بالقرب من الجامع الحسيني وجلس وأغلق عليه باب الدار ومنع الناس من التردد إليه وصار كالمرسم عليه وهذا أيضًا من أعجب العجب كون الشخص يكون على إقطاعه ووظيفته ويصير على هذه المثابة. وسكن الأمير الكبير بالسلسلة وتصرف في أمور المملكة من غير مشارك واستبد بتدبير أحوال السلطنة من ولاية الوظائف والإنعام بالإقطاعات والإمريات على من يريد ويختار فصار الملك العزيز ليس له من السلطنة إلا مجرد الاسم فقط. فعظم ذلك على المماليك الأشرفية وأنكروا سكنى الأمير الكبير بباب السلسلة واتفقوا ووقفوا في جمع كبير بالرميلة وأكثروا من الكلام في ذلك ثم انفضوا من غير طائل وفي أملهم أن الأمراء إذا قدموا من سفرهم أنكروا على الأمير الكبير ما فعله وقاموا بنصرة الملك العزيز وانتظروا ذلك. وأخذ الأتابك جقمق في تحصين باب السلسلة والقلعة وأشحنهما بالسلاح والرجال وصارت الأعيان من كل طائفة تبيت عنده بباب السلسلة في كل ليلة والأمراء والأعيان تتردد إلى خدمته. وتركت الخدمة السلطانية واحتج الأمير الكبير بتركها أنه بلغه أن المماليك الأشرفية اتفقوا على قتله إذا طلع إلى الخدمة السلطانية وجعل ذلك عذرًا له عن عدم حضور الخدمة. وصار هو المخدوم والمشار إليه وتردد مباشرو الدولة إلى بابه وسائر الناس وتلاشى أمر السلطان الملك العزيز إلى الغاية. ولهج الناس بسلطنة الأتابك جقمق وشاع ذلك بين الناس. وصار الأتابك كلما بلغه فلك أنكره وأسكت القائل بذلك ولسان حاله ينشد: الكامل لا تنطقن بحادث فلربما نطق اللسان بحادث فيكون هذا والأتابك جقمق متخوف في الباطن من الأمراء المجردين لكونهم جمعًا كبيرًا وفيهم جماعة من حواشي الملك الأشرف ومماليكه مثل أركماس الظاهري الدوادار الكبير وتمراز القرمشي رأس نوبة النوب وجانم الأشرفي الأمير آخور الكبير وقراجا الأشرفي وخجا سودون السيفي بلاط الأعرج وفيهم أيضًا من تحدثه نفسه بالوثوب على الأمر وهو الأمير قرقماس الشعباني الناصري أمير سلاح المعروف بأهرام ضاغ فلهذا صار الأتابك جقمق يقدم رجلًا ويؤخر أخرى. ثم قدم الخبر بخروج الأمراء من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية وأن خجا سودون البلاطي أحد مقدمي الألوف تأخر عنهم على عادته في كل سفرة فندب الأتابك السيفي دمرداش الحسني الظاهري برقوق الخاصكي بالتوجه إلى غزة وعلى يده مرسوم شريف بتوجه خجا سودون إلى القدس بطالًا فمضى دمرداش المذكور وفعل ما ندب إليه. فلما كان يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الأول وصل الأمراء إلى الديار المصرية وطلعوا الجميع إلى الأتابك جقمق ما خلا الأمير يشبك السودوني حاجب الحجاب فإنه قدم القاهرة في الليل مريضًا في محفة إلى داره. ولم ينزل الأتابك إلى تلقي الأمراء المذكورين وكان أرسل إليهم يخوفهم من المماليك الأشرفية وذكر لهم أنهم يريدون الركوب عليهم يوم دخولهم فدخلوا الجميع بأطلابهم. ولما طلعوا إلى جقمق قام لهم واعتنقهم وأكرمهم غاية الإكرام. وأرسل إلى الملك العزيز أنه يخرج ويجلس بشباك القصر حتى يقبلوا له الأمراء الأرض من الإسطبل السلطاني ولا يطلع إليه أحد ففعل الملك العزيز ذلك وجلس بشباك القصر حتى أخذ الأتابك جقمق الأمراء وسار بهم من الحراقة يريد الإسطبل السلطاني والجميع مشاة وقد جلس السلطان الملك العزيز بشباك القصر فوقف الأمراء تحت شباك القصر وأومؤوا برؤوسهم كأنهم قبلوا له الأرض. وأحضر إليهم التشاريف السلطانية في الحال فلبسوها وقبلوا الأرض ثانيًا كالمرة الأولى وعادوا راجعين في خدمة الأمير الكبير حتى طلعوا معه إلى الحراقة ثم سلموا عليه وكنت لما لاقيت الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس سألني عن أحوال الأتابك جقمق فقلت له كلاما متحصله أنه ليس بينه وبين السلطنة إلا أن تضرب له السكة ويخطب باسمه فاستبعد ذلك لقوة بأس المماليك الأشرفية وعظم شوكتهم فلما نزل من القلعة وعليه الخلعة قلت له قبل أن يصل إلى داره: كيف رأيت جقمق قال: سلطان على رغم الأنف. ومعنى قوله: على رغم الأنف " لأنه كان بينهما حضوض أنفس قديمة. ثم أصبحوا يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول حضروا الجميع إلى عند الأتابك جقمق بباب السلسلة وجلس الأتابك في الصدر وكل من الأمراء على يمينه وشماله إلا قرقماس أمير سلاح فإنه زاحم الأتابك جقمق في مجلسه وجلس معه على فراشه والأمير جقمق يجذبه إلى عنده ويخدعه بأنه لا يفعل شيئًا إلا بمشورته وأنه قوي أمره بقدومه وأنه شيخ كبير عاجز عن الحركة واقتحام الأهوال إلا إن كان بقوة قرقماس المذكور. كل ذلك وهما جلوس على المرتبة فانخدع قرقماس وطابت نفسه بما سمعه من الأتابك جقمق أنه ربما إن تحرك بعد ذلك بحركة تمت له لضعف جقمق عن مقاومته. هذا وقد برز الطلب لجماعة من الأشرفية وغيرهم وجميع من هو بالقلعة من الأعيان فلما حضروا أشار قرقماس لجماعة من الرؤوس نوب وأمراء جندار ممن حضر المجلس أن اقبضوا وأول ما بدأ برفيقه الأمير جانم الأشرفي الأمير آخور الكبير ثم أشار لواحد بعد واحد إلى أن قبضوا على جماعة كبيرة من الأمراء والخاصكية وهم: الأمير جانم المقدم ذكره ويخشباي الأمير آخور الثاني وعلي باي شاد الشراب خاناه وتنبك السيفي نوروز الخضري المعروف بالجقمقي نائب قلعة الجبل وخشقدم الطواشي الرومي اليشبكي مقدم المماليك ونائبه الطواشي فيروز الركني الرومي أيضًا وخشكلدي من سيدي بك الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وجكم خال الملك العزيز وجرباش الأشرفي أحد أمراء العشرات المعروف بمشد سيدي وجانبك قلق سيز الساقي أحد أمراء العشرات ومن الخاصكية: تنم الساقي وأزبك البواب ويشبك الفقيه - وكل من هؤلاء الثلاثة أحد الأربعة المقدم ذكرهم - وتنبك الفيسي المؤيدي رأس نوبة الجمدارية وأرغون شاه الساقي وبيرم خجا أمير مشوي ودمرداش الأشرفي والي القاهرة وبايزير خال الملك العزيز وقيدوا الجميع. وفي الحال خلع على الأمير تمر باي التمربغاوي أحد مقدمي الألوف باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن الزيني عبد الرحمن بن الكويز بحكم عزله وأمر بالسفر إلى الإسكندرية من يومه وخلع على قراجا العمري الخاصكي الناصري باستقراره في ولاية القاهرة عوضًا عن دمرداش الأشرفي بحكم القبض عليه. ثم ندب الأمير الكبير الأمير تنبك البردبكي أحد مقدمي الألوف والأمير أقطوه الموساوي أحد أمراء العشرات البرقوقيين في عدة من المماليك السلطانية أن يطلعوا إلى القلعة ويقيموا بها لحفظها. وكان تنبك المذكور ولي نيابة القلعة قبل تاريخه سنين كثيرة في الدولة الأشرفية فطلع إلى القلعة وسكن بمكانه أولًا على العادة. ثم انفض الموكب وقد تزايد عظمة الأمير الكبير جقمق وهابته النفوس بما فعله قرقماس بين يديه من القبض على الأمراء المذكورين. وفهم الناس أنه فعل ذلك خدمة للأمير الكبير وكان غرض قرقماس غير ذلك فإنه رام نفع نفسه فنفع غيره فكان حاله كقول من قال: " مع الخواطىء سهم صائب " وكقولهم: " رب رمية من غير رام ". ونزل الأمراء إلى دورهم وقد استخف الناس عقل قرقماس وخفته وطيشه في سرعة ما فعله كل ذلك لاقتحامه على حب الرئاسة. ونزل قرقماس إلى دار وفي زعمه أن جميع من هو بخدمة الأمير الكبير ينقلبون عن الأمير الكبير إليه ويترددون إلى بابه لأنه هو كان الحاكم في هذا اليوم ولم يدر أن القلوب نفر منه لتحققهم ما يظنوه من كبره وجبروته وبطشه وقد اعتادوا بلين الأمير الكبير وبأخذه لخواطرهم في هذه المدة وتمسكه عن قبض من كان لهم غرض قبضه وقد صاروا له كالمماليك والخدم لطول تردادهم إليه في باب السلسلة وغيرها وقد انتهى أمره وحصل لهم ما كان في أملهم وأيضًا أنهم لما رأوا قرقماس فعل ما فعل لم يشكوا في أمره أنه من جملة من يقوم بنصرة الأتابك وأنه كواحد منهم فلم يطرق أحد منهم بابه ولم يدخل إليه في ذلك اليوم إلا من يلوذ به من حواشه ومماليكه. وسافر تمرباي نائب الإسكندرية من الغد في يوم الجمعة. وأصبح في يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول انزل من باب السلسلة من تقدم ذكره من الأمر الخاصكية الممسوكين على البغال بالقيود إلى سجن الإسكندرية وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا تحصى وهم قسمان: قسم باق عليهم وقسم شامت لتقاعدهم عن القتال في خدمة ابن أستاذهم الملك العزيز يوسف وأيضًا لما كان يقع منهم في أيام أستاذهم من التكبر والجبروت. ثم أرسل الأمير الكبير في اليوم المذكور إلى الأمراء القادمين من التجريدة بمال كبير له صورة لا سيما ما حمله إلى قرقماس فإنه كان جملة مستكثرة. ثم في يوم الأحد تاسع شهر ربيع الأول خلع على الزيني عبد اللطيف الطواشي الرومي المنجكي المعروف بالعثماني أحد الجمدارية باستقراره مقدم المماليك السلطانية وأنعم عليه بإمرة عشرة لا غير وهو إقطاع النيابة الذي كار بيد فيروز الركني نائب مقدم المماليك وكانت الخلعة عليه بين يدي العزيز بعثه الأمير الكبير إليه وأمره أن يخلع عليه واستقر في نيابة المقدم جوهر المنجكي ثم في يوم الاثنين عاشره ركب السلطان الملك العزيز من القلعة ونزل إلى الميدان ومعه الزيني عبد الباسط ناظر الجيش وجماعة أخرى من خواصه الأصاغر وركب الأمير الكبير من الحراقة وفي خدمته جميع الأمراء مشاة ما عدا أركماس الظاهري الدوادار الكبير وآقبغا التمرازي أمير مجلس وساروا الثلاثة على خيولهم من الإسطبل السلطاني حتى نزلوا إلى الميدان وبه السلطان يسير. فعندما رأوا الأمراء الملك العزيز ترجلوا عن خيولهم وقبلوا الأرض وتقدم الأمير الكبير جقمق وقبل رجل السلطان في الركاب ثم بعده جميع الأمراء فعلوا مثل فعله. ثم تقدم الأمير يشبك السودوني حاجب الحجاب قبل الأرض وخلع عليه خلعة السفر لأنه كان انقطع عن رفقته لتوعك كان به وطلع في هذا اليوم انصرف الجميع عائدين في خدمة الأمير الكبير إلى أن أوصلوه إلى سلم الحراقة ووقفوا له هناك حتى سلم عليهم وعادوا إلى دورهم. وكان سبب تأخر قرقماس عن الطلوع في هذا اليوم والذي قبله أمور: منها أنه كان في نفسه الوثوب على الأمر وفعل ما فعل من مسك الأمراء وغيرهم ليروج أمره بذلك فلم ينتج أمره وتقهقر وزادت عظمة الأتابك جقمق فعز عليه ذلك في الباطن وكان في ظنه أنه لابد أن يملك الديار المصرية من يوم توجه إلى مكة وحكمها. فلما عرف منه ذلك تقرب إليه جماعة من الذين يوهمون الناس أنهم صلحاء ولهم إطلاع على المغيبات وصاروا يبشرونه بسلطنة مصر وتخبره جماعة أخر بمنامات تدل على قصده فينعم عليهم بأشياء كثيرة. ثم كلما نظر من يدعي معرفة علم النجوم يسأله عما في خاطره - وقد أشيع عنه حب الرئاسة - فيبشره الرمال أو المنجم أيضًا بما يسرة من قبله وحسب اجتهاده لأخذ دراهمه. فكان قرقماس ينتظر موت الملك الأشرف يومًا بيوم فاتفق موت الملك الأشرف باي وهو مسافر وإلى أن يحضر انتظم أمر الأتابك جقمق وتم فلم يلتفت إلى ما رأى من أمر جقمق بما سبق عنده أنه لابد له من السلطنة وأخذ يسلك طريقًا تصادف ما هو قصده. فدخل القاهرة مطلبًا فلم يلتفت إليه أحد. وطلع إلى الأتابك جقمق وامتنع من طلوع القلعة إلى الملك العزيز حتى قبل الأرض من الإسطبل خوفًا من أن يقبض عليه يريد بذلك أن ينتبه إليه الناس فلم ينظر إليه أحد. ثم أخذ في مسك الأمراء حتى يعظم في النفوس فلم يقع ذلك. فانقطع بداره عن الطلوع إلى الأتابك مدة أيام وتعلل بأنه بلغه عن الأمير الكبير وحواشيه ما غير خاطره يظهر ذلك لتتسامع بغضبه الناس ويأتوه ليثور بهم فلم ينضم إليه أحد فاستدرك فارطه واستمر بداره إلى هذا اليوم. فلما عاد الأتابك من عند الملك العزيز إلى سكنه بالحراقة من باب السلسلة أرسل إلى الأمير قرقماس المذكور الأمير تمراز القرمشي رأس نوبة النواب وقراجا الأشرفي أحد مقدمي الألوف والزيني عبد الباسط ناظر الجيش يسألوه عن سبب انقطاعه عن الطلوع إلى الأمير الكبير في هذه الأيام فذكر لهم أنه بلغه عن حواشي الأمير الكبير من المؤيدية أنهم يتهموه بالركوب وإثارة الفتن وأنه يريد يتسلطن ولم يكن له علم بشيء من ذلك. فما زالوا به حتى ركب معهم وطلع إلى الأمير الكبير بالحراقة من الإسطبل السلطاني فقام الأمير الكبير واعتنقه وأخذ بيده ودخلا مع أعيان الحاضرين إلى مبيت الحراقة وجلسا في خلوة وتعاتبا قليلًا. وأخذ الأمير الكبير يقول له إن قرقماس عنده في مقام روحه وإنه لم يتصل إلى هذا الموصل إلا بقوته وكونه معه وأخذ قي مخادعته والأخذ بخاطره إلى أن تحقق قرقماس أنه لا يأتيه ما يكره من قبل الأتابك إلى أن يدبر لنفسه ما يوصله إلى غرضه. ثم حلف له الأتابك على هذا المعنى جميعه وبكى واعتنقه وخرجا من المبيت وقد صفا ما بينهما ظاهرًا والباطن فلا يعلم ما فيه إلا الله تعالى. وهو أن قرقماس لم يطلع في هذا اليوم إلى الأتابك إلا بعد أن عجز عما في خاطره فاحتاج إلى المداهنة حتى يطول أمره إلى أن يحصل له مراده. ولم يخف ذلك عن الأتابك جقمق غير أنه رأى أنه لا يتم أمره فيما يروم إلا بموافقة قرقماس له أولًا ثم بعد ذلك يفعل ما بدا له. وعندما قام قرقماس من مجلس الأتابك ليتوجه إلى داره قدم له الاتابك فرسًا بقماش ذهب من مراكيبه فركبه قرقماس ونزل إلى داره ومعه أيضًا الأمير تمراز رأس نوبة النواب وقراجا وهما في خدمته إلى داره فأركب قرقماس كلًا منهما فرسًا بقماش ذهب. ثم أخذه القلق وأخذ يدبر في تأليف المماليك الأشرفية عليه فرأى أنه لا يتم له ذلك بالعطاء ولا بالملق لكثرتهم وإنما يتم له ذلك بسلطنة الأتابك جقمق لينفر عنه من كان من حزبه من المماليك الأشرفية وينضموا عليه وكان هذا حدسًا صائبًا ووقع له ما أراد غير أنه استعجل لأمر يريده الله. فأخذ قرقماس من يومذاك يحسن للأتابك جقمق توليته السلطنة وخلع الملك العزيز. ولا زال يلح عليه في ذلك وهو يلين تارة ويتوقف تارة وكان هذا الأمر في خاطر الأتابك وأصحابه غير أنه كان يستعظم الأمر ويخاف من نفور قرقماس عنه إذا فعل ذلك. وأخذ ينتظر فرصة للوثوب بعد حين فحرك الله تعالى قرقماس حتى سأله في ذلك وألح عليه لما في غرضه في أيسر مدة لتعلم أن الله على كل شيء قدير. ومن يومئذ هان الأمر على الأتابك وأخذ في أسباب السلطنة وكتب يطلب صهره القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق.
|